العولمة و أثرها على دول العالم الثالث

  مصنف: تسلية وثقافة 4137 2

انشغل العالم أجمع خلال العقد الأخير من القرن العشرين حتى يومنا هذا بقضايا العولمة ومفاهيمها وآثارها المستقبلية ، واختلف العلماء والأدباء والمؤرِّخون والكتَّاب بين موافق ومعارض حول انعكاسات العولمة على دول العالم الثالث ، ومنها العالم العربي والعالم الإسلامي ، وكثرت الكتابات والمؤثرات لتسويق أخطار العولمة وإقناع الدول للدعوة إليها والسير في مناكبها.


(وأصبحت قضية العولمة العصا السحرية التي ينادي بها الرأسماليون مع الشركات العابرة للقارات لعلاج مشكلات العالم في الألفية الثالثة ، وهي من الأمور المرفوضة في دول العالم الثالث أو الدول النامية ، فضلا عن كثير من التجمعات البشرية الواعية بمخاطرها في الدول المتقدمة ، انعكس هذا في الاضطربات التي سيطرت على مؤتمرات منظمة التجارة العالمية في سياتل بولاية واشنطن ،وفي دافوس بسويسرا ، وفشلت جميع المؤتمرات الاقتصادية التي تدعو إلى السير في ركب العولمة )
لقد عكس مفهوم العولمة نظاماً في المجتمع شمل الاقتصاد والثقافة والسياسة ، وهذا مغاير تماماً للنظام القديم ، إذ إنَّ مفهوم التقادم تبدَّل ، فالتغير هنا بات شبه يومي ، بل لقد رافق نظرية العولمة طغيان المفهوم الاقتصادي حيث أصبحت تعبِّر عن نشاط رأس المال ومقدار تداخله في العالم ، وتحول العالم إلى سوق استهلاكية كبرى لمنتجات الشركات الصناعية الأكبر حجماً ، في الوقت الذي بدأ البعد الثقافي مهملاً من جهة التأثير المتبادَل ، فمع ظهور الشركات المتعددة الجنسيات ، وفرض هيمنتها المتزايدة على المقدرات والفعاليات الإنتاجية والمالية عبر العالم ، مثَّلت أنماط السلوك والممارسات التجارية للعاملين في هذه الشركات مصدراً مهماً لثقافة تمتد عبر القوميات ، وكان واضحاً أنَّ مجمل هذه المتغيِّرات والتيارات الاقتصادية الكبرى قد رافقتها تشكيلات ثقافية على مستوى العالم ككل يُشار إليها اليوم بالثقافة العالمية.
والثقافة العالمية ليست شيئاً سوى الثقافة الغربية ، أو هكذا يُراد لها أن تكون ، ثقافة تعمم وذوق واحد يفرض على جميع البشر ، تُلغى فيه الاختلافات والتمايزات الحضارية ، فباسم التعددية العالمية وباسم الثقافة الإنسانية يتم التعدي على الثقافات غير الغربية ، وتجاوز الخصوصيات الاجتماعية.
ومن هنا فإنْ بدت العولمة آثارها تظهر في الأفق ، إلا أنَّ موضوعها لا يزال صعب التحديد ، ويُصعب وضعه في إطار منهجي محدد ، فالعولمة عملية تاريخية تحاول أطراف مختلفة أن تدفع بها إلى طرق مختلفة ، وإنْ كانت ترمي في النهاية إلى هدف واحد، فما هي العولمة ؟.
العولمة مفهوم مراوغ ، ومتعدد الدلالات ، ومختلف المعاني ، وعمومية استخدام المصطلح تجعل من الصعب إيجاد مفهوم خاص يتمتع بقبول جماهيري شائع الاستعمال وبالتالي فإنَّ النظرية الذاتية لهذا المفهوم المراوغ لا يجب أنْ تقتصر على كينونة المصطلح واعتبارها كينونة ذاتية مغلقة كما يقول الباحث الدكتور:” محسن أحمد الخضيري” بل يجب أنْ تتجه إلى طبيعة المصطلح وانفتاحه ، أي بمنطق انفتاحه على الاتجاهات الأخرى ، وتنامي مضمون العولمة مع حركة الفكر وتصاعد الحوار والدراسات عبر الزمن ، واتجاهات الجغرافيا وتفاعلها مع التاريخ.
فالعولمة إذاً ثمرة طبيعية برغبة الكيانات الكبرى في التوسع والسيطرة ، والهيمنة ، وإملاء الإرادة وبسط النفوذ ، وهي نتيجة منطقية لزيادة احتياجات المشروعات الكبرى إلى أسواق مفتوحة تنمو بشكل دائم ومستمر ،ومن ثم فإن أنماط الإنتاج الكبير للمنتجات ، والتسويق الواسع الذي يضمن تصريف كامل الإنتاج ، والتوظيف الشامل الذي يستوعب كل مطالب العمل في الاقتصاد، كل هذا وغيره دفع إلى العولمة وتطلب بشدة من الكيانات الاقتصادية المختلفة سرعة التعولم . ولعل تصدير الأنماط الاستهلاكية السائدة في دول الغرب ، وانتشار الشركات متعددة الجنسيات ، وفروعها المختلفة في الدول النامية لدليل على الرغبة في السيطرة الاقتصادية والاجتماعية … للدول الصناعية عبر الترويج والإعلام والثقافة الموجَّهة للقضاء على جذور الثقافات المختلفة الأخرى.
وإذا كانت اللغة قد نحتت مصطلح العولمة على وزن ” الفوعلة ” بدلالتها على التشكيل المفروض من خارج المادة ، الذي يحمل معنى الفوقية وأحادية الاتجاه في مقابل صيغة التفاعل التي توحي بالحوارية وثنائية الاتجاه ، ومن هنا نجد الباحث ” د. أحمد درويش ” يؤكد أن اللغة هنا قد تنبهت إلى ما لم تتنبه إليه منذ نحو ثلاثة قرون عندما فاجأتها البذرة الأولى لظاهرة العولمة ممهلة في الإمبريالية الأوربية التي تمت ترجمتها إلى مصطلح(الاستعمار) مع أن الدلالة الأولى لهذا المصطلح هي السعي لإعمار الأرض ، كما جاء في القرآن الكريم ” هو الذي أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها ” (سورة هود آية 61 ) ولعل هذا هو ما يفسر ميل اللغة إلى استخدام الإمبريالية بدلاً من الاستعمار في كثير من الأحيان.
لقد نشأت العولمة امتداداً للظاهرة الاستعمارية ، خاصةً في المجال الاقتصادي ، ومع أنًّ ظاهرة العولمة كل لا يتجزأ بأبعادها الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية … من حيث العناصر واعتمادها على بعضها البعض في الوصول إلى الهدف ، إضافةً إلى وحدة المصدر المهيمن في عالم القطب الواحد ، إلَّا أنَّ البعد الثقافي يشكِّل بعداً خاصاً على هوية الفرد والجماعة معاً ، وبالتالي على صمود أو ذوبان مجموعة من الكيانات القومية المستهدفة ، وفي مقدمتها الكيان العربي الإسلامي ” العالم الثالث “.
ومع أن الثقافات كانت وما زالت دائماً عنصراً مهماً في حملات الترويج الأيديولوجي أو الغزو الاستعماري يُراد من ورائه طرح أفكار الغالب على المغلوب ، أو تحطيم روح المقاومة من خلال إضعاف عناصر الروح القومية لدى الشعوب المستضعفة (دول العالم الثالث ) فإن موقع الثقافة ازداد أهمية ، فلم يعد الاستهداف الثقافي وسيلة إلى غاية ، وإنما أصبح غاية في ذاته.
وفي هذا الصدد يقول “فؤاد زكريا”
في زمن العولمة علينا أنْ نُفَعِّل دور العقل والتفكير ، بحيث نأخذ المفيد الذي يعزز من بناء مجتمعنا ونرفض المسيء الذي يدمِّر قيمنا ، ويجب ألا يكون العقل مشدوداً إلى الخلف ، أو جامداً في مكانه وزمانه ، بل يجب أن يكون مستنيراً قادراً على التطلع بأمل إلى مستقبل واعد وأفضل ، لأنَّ التحدي الذي نواجهه ليس اختيار بين الرجوع إلى الأصل أو مسايرة العصر ، وإنما إلى إثبات استقلالنا عن الآخرين ، وابتداع حلول من صنعنا نحن : نعمل لتاريخنا وواقعنا ، وعندها نكفل المكان الذي يليق بنا.
فالصد والانعزال قد يجديان في الحروب، أما في الساحة الثقافية فلا يفيدان ، وهما أقصر الطرق إلى الهزيمة والتسليم ، ولذلك فالدول التي تحاول صد الأخطار الثقافية الخارجية عن طريق سن قوانين المنع والحظر والرقابة هي أكثر تعرضاً لهذه الأخطار ، أما المجتمعات التي تصنع ثقافتها الخاصة المستنيرة كي تواجه بها الثقافات الوافدة ، فهي وحدها التي تستطيع أن تصمد وتنتصر ، وبهذا ينتهي القلق الثقافي الذي تعانيه …، وفي زمن العولمة ماذا عن الشباب وثقافتهم هل هي مقنعة وجادة وقادرة على الحوار والمناظرة ومتابعة المستجدات ؟ أم أنها قاصرة عن أداء دورها ؟ وهل توجد فجوة بين الأجيال ، بمعنى أن جيل الكبار لم يعد يفهم الجيل الجديد ويدرك همومه ومشكلاته ، فلا يستطيع التجاوب معها ؟ وهل جيل الكبار الذي عاش في زمن يختلف عن زمن هذه الأجيال ، التي تعيش في عصر العولمة والإنترنت والحاسوب وثورة المعلومات ، لا يزال ينظر إليها نظرة شك وعدم قناعة ؟ وهل الأجيال الجديدة تعيش محنة الثقافة ، فلا تستطيع تحليل المستجدات والنظر إلى المستقبل بتفاؤل؟ أم أنها اتكالية ؟ أم أن الفرص المتاحة لها غير كافية ؟ الأسئلة كثيرة والإجابة عنها تكمن في تمكن جيل الكبار على التقاط أوضاع الأجيال الجديدة ومحاولة دفعها إلى الأمام وبعث الأمل في نفوسها فتتطلع إلى المشاركة في توجيه المجتمع . إن هذه الأجيال تمر في أزمة الثقافة والفكر والثقة ، ويشعر جيل الكبار بالرثاء لجيل الشباب ، وينظرون إليهم باستعلاء ، فمن غير المعقول أن تستمر المعادلة بهذه الصورة التي تجعل الثقافة تعيش أجواء الأزمة وعدم الثقة ، لأن الجيلين بحاجة إلى بعضهما ، خصوصاً في قضايا الفكر والثقافة والحياة .
إنَّ مسؤولية الكبار في ظل تنامي العولمة مهمة في دفع التهم ورفع الحواجز أمام الأجيال الجديدة التي ترى أنَّها مستهدفة ، وأكثر قدرة على فهم مرامي العولمة ومعطياتها ، والمسؤولية مشتركة خصوصاً حين نشاهد كيف ينتقل زمام الحياة الفكرية والعلمية في المجتمعات الغربية من جيل إلى جيل بصورة طبيعية ، وتتاح للشباب فرص ذهبية ، ويسيرون على منحنى المعرفة والاستنارة الفكرية المتصاعد.
لقد وقعت شعوب العالم الثالث فريسةً سهلة لثقافة صدَّرتها الشعوب الغربية ، ثقافة غازية وليس ثقافة صفوة ، خاصةً لفقدان عنصر التكافؤ الثقافي ، هذه الثقافة تجد رواجاً كبيراً بين صفوف شبابنا في العالم العربي والعالم الإسلامي على حَدٍّ سواء ، وهم حملة المسؤولية في المستقبل ، ويزيد من انتشارها وجود فراغ ثقافي لديهم ناتج من انعدام التخطيط العلمي غير العاطفي لزرع الثقافة القومية في نفوسهم ، وهنا يجب أنْ لا ننسى دور الإعلام الغربي بكل رموزه ، من هوليوود حيث صناعة السينما إلى الصحافة حيث صناعة الرأي وصولاً إلى الفضائيات التي تنقل إلى الأجيال الجديدة ما شاء لها أن يصل إلى بنائهم الثقافي ، وتكوينهم الفكري ، ولا ننسى ما لتأثير الإنترنت على ثقافات الشعوب في العالم أجمع ، والذي يعد عنصراً للعولمة الثقافية لأنها ألغت تماماً المسافات وعبرت الحدود دون جواز سفر.
وفي صدد الحديث عن شبكة الإنترنت يقول الدكتور ” نادي كمال عزيز”
(دخول الإنترنت وركوب موجاتها يشبه من جهات كثيرة ركوب الأسد ، فهو يمنح صاحبه الثقة والفخر ، وهو لذلك ممتع جداً ، ومثير جداً ، بيد أنه في الوقت نفسه خطر جداً ، لقد أصبحت بعض وزارات التربية والتعليم في عالمنا العربي على اتصال بشبكة الإنترنت وكذلك بعض أولياء الأمور، وإن هذا الوضع الجديد يلقي على المهتمين بالعملية التعليمية وبالتربية عبئاً ثقيلاً ، سواء كانوا داخل المدرسة أم خارجها ، ونظراً لأن شبكة الإنترنت غير معربة ، ويتعامل معها جنسيات ونوعيات مختلفة من البشر ، نظراً لأن عالم الإنترنت لم يعد مجرد اسم أو رمز في حياتنا ، بل أصبح جزءاً واقعياً وأسلوب حياة يومي لكل مواطن ، ومقياساً للتقدم والتحضر في عالم اليوم ).
وقد ظهر لدينا مفهوم جديد هو عولمة التعليم ، وقد ظهر مع الانتشار الواسع الكمبيوتر والإنترنت والتي جعلت العالم قرية صغيرة يستطيع أي فرد في العالم الاتصال بالآخرين ، وعولمة التعليم يرى البعض أنها لا تتعارض مع الثقافة المحلية والقومية ، ويرى البعض أن هناك صراعاً بينهما ، ويرى الدكتور ” نادي كما ل عزيز ” التوفيق بين العولمة والثقافة المحلية والقومية ، لأن الثقافة القومية تتأثر وتؤثر في الثقافة العالمية ، خاصة في ثورة المعلومات والكمبيوتر والإنترنت …..
(وفي مجال السياسة ثمة ظاهرة تشكل العولمة ، وهي تكوين حركات سياسية تعمل على مستوى عالمي ، ولم يعد حتى سور الصين العظيم يمنع من الامتداد حتى نهاية العالم ، ومن الناحية الفلسفية والفكرية فالمجتمع المدني عالمي ، ذلك هو المجتمع من الناس الذين يفكرون بشكل عالمي، ويؤمنون بوحدة الجنس الإنساني وترابط مصيره ، وينشدون الضغط على صانعي السياسة لإنتاج سياسات مواكبة للسلام والتحرر الاجتماعي ، والتنمية الاقتصادية والثقافية المتوازية لكل الشعوب مع احترام التعددية الثقافية والحضارية في الوقت نفسه).
لقد زُرعت العولمة بمختلف أشكالها في جسد العالم الثالث لتكون عدوةً لثقافتها وحضارتها ، وبناء نظام عالمي إنساني الطابع والاتجاه لا يتم إلا عبر مشاركة الجميع في تشكيله ، نظام تقبله جميع الأطراف ، يقوم على التعددية والحوار والتعاون المشترك ، وتنتفي منه لغة التهديد والهيمنة على الشعوب الضعيفة، فهل بالإمكان أن تنجح شراكة متوازية بين المدنية الحديثة والقيم الروحية ؟ من الممكن ذلك ، وأي رأي يذهب إلى غير ذلك سيحتوي على تشكيك غير مبرر بالقيم الروحية وبالمدنية الحديثة .
وفي النهاية يجب ألا يخيفنا المفهوم الحالي للعولمة ، فيجعلنا نعيش في عالم منفرد ، خصوصاً أنَّ العولمة على ارتباط وثيق بالعالمية ، فالمجتمعات البشرية تعيش أصلاً في عالم واحد ، وتشارك في نمط علمي ثقافي اقتصادي ، وتتلقى التأثيرات المادية نفسها ، سواء تعلق ذلك بالإعلام أو الثقافة أو البيئة ، والأخذ بالتقنيات الحديثة أمرٌ ضروري للمشاركة في الثقافة العالمية ، والدفاع عن البقاء ، ولكن الاستفادة من هذه التقنيات غير ممكنة من دون أن تقف وراءها استراتيجية ذاتية مستقلة ، تسعى إلى النهوض بالأمة بما تقدِّم من إنتاج فكري وعلمي.

يوسف يعقوب

كاتب ومترجم وخبير برمجة لاكثر من 20 سنة. مهتم بالغذاء والصحة وعلاج الامراض بالاعشاب والطرق الطبيعية.

أقرأ مقالاتي الأخرى