أهل الصفة هم اصحاب الرسول الذين عرفوا باضياف الاسلام

  مصنف: شريعة 1939 0
 عندما تمّ تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بأمر الله تعالى، وذلك بعد ستة عشر شهراً من هجرته – ﷺ – إلى المدينة، وبقي حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي في الركن الشمالي الشرقي منه، فأمر النبي – ﷺ – به فظلل أو سقف  بجريد النخل، وأُطلق عليه اسم “الصفة” أو “الظلة”، ولم يكن له ما يستر جوانبه. وقد أُعدت الصفة لنـزول الغرباء العزاب من المهاجرين والوافدين الذين لا مأوى لهم ولا أهل فكان يقل عددهم حيناً، ويكثر أحياناً. وأهل الصفة هم فقراء المسلمين من أصحاب رسول الله ـ ﷺ ـ الذين لم تكن لهم منازل يسكنونها، فكانوا يأوون إلى هذا المكان المظلّل في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وعُرفوا بأضياف الإسلام .

من هم أهل الصفة

قال القاضي عياض : الصفة ظلة في مؤخر مسجد رسول الله – ﷺ – يأوي إليها المساكين، وإليها ينسب أهل الصفة . وقال ابن حجر : الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل . وعن أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد ) ( البخاري ) .

فالمهاجرون الأوائل الذين هاجروا قبل النبي – ﷺ – أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة، ولكن فيما بعد لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم، وذلك بسبب انتشار الإسلام وكثرة من يدخلون فيه، ومن ثم كثر المهاجرون إلى المدينة، فكل من لم يتيسر له أحد يكفله، أو مكان يأوي إليه، كان يأوي إلى تلك الصفة في المسجد مؤقتا ريثما يجد السبيل .
وكان النبي – ﷺ – إذا أراد دعوة أهل الصفة لأمر، عهد بذلك إلى أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ فدعاهم لمعرفته بهم.
ويصف أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أحوال أهل الصفة واهتمام النبي ـ ﷺ ـ بهم فيقول : ( لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته ) ( البخاري ) .
ويقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : ( .. آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم ـ ﷺ ـ فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال : يا أبا هِر ! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق بنا . ومضى فاتبعته فدخل فأستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: من أين هذا اللبن ؟، قالوا : أهداه لك فلان الأنصاري، قال: أبا هر ! قلت : لبيك يا رسول الله، قال : الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي . قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة؟!، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بُد ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال : يا أبا هر ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم . قال : فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله، قال : بقيت أنا وأنت ؟! قلت : صدقت يا رسول الله، قال : اقعد فاشرب، فقعدت فشربت فقال : اشرب ، فشربت فما زال يقول : اشرب ، حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال : فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة ) (البخاري ).
أما عن حياتهم ونفقاتهم فقد كان النبي – ﷺ – يتعهدهم بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم، كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم، ويذكرهم ويعلمهم، ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته، وذكر الله والتطلع إلى الآخرة، وكان – ﷺ – يتكفل نفقتهم بوسائل متعددة ومتنوعة، فإذا أتته – ﷺ – صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، وكثيرا ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في بيته، ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً .
عن عبد الرحمن بن أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قال: إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء ، وإن النبي – ﷺ – مرّة قال: ( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس – أو كما قال – وإن أبا بكر جاء بثلاثة ، وانطلق النبي – ﷺ – بعشرة . . . )( البخاري ).  كان الصحابة -م- يأخذ الواحد منهم الاثنين والثلاثة من أهل الصفة فيطعمهم في بيته، كما كانوا يأتون بأقناء الرطب ويعلقونها في السقف لأهل الصفة حتى يأكلوا منها، فذهب المنافقون ليفعلوا مثل فعلهم رياء فصاروا يأتون بأقناء الحشف والرطب الرديء، فأنزل الله فيهم قوله: “وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ..” (البقرة: آية: 267)، وفيهم نزل قوله تعالى: “لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ” (البقرة: آية 273 )
وكان – ﷺ – يقدم حاجتهم على غيرها مما يُطلب منه، فقد أُتى بسبي مرة فأتته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ تسأله خادماً ، فكان جوابه: ( والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم ) ( أحمد ) .
وقد أوصى النبي – ﷺ – الصحابة بالتصدق عليهم، فجعلوا يصلونهم بما استطاعوا من خير .
وقد ألِف أهل الصفة الفقر والزهد، فكانوا دائمي الجلوس في المسجد، يصلون ويتدارسون آيات القرآن ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة، حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة .
ويصف أبو نعيم أهل الصفة قائلا : ” هم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض، وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء، لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحوا إلا أيدوا به من العقبى .. ” .
وكانوا يكثرون ويقلّون بحسب تبدّل الأحوال التي تحيط بهم، من يسر بعد عُسْر، أو شهادة في سبيل الله، أو غير ذلك .
أما عددهم فقد كان يختلف باختلاف الأوقات، على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلاً، وأحيانا يزيد عددهم كثيراً، حتى أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم، فضلاً عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة .
ولم يكن فقرهم ـ رضي الله عنهم ـ لقعودهم أو تكاسلهم عن العمل وكسب الرزق، فقد كانوا يرضخون(يكسرون)النوى بالنهار لعلف الماشية، وهم ليسوا أصحاب ماشية، فهم إذن يعملون لكسب الرزق .
واشتهر بعضهم بالعلم كحذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ الذي اهتم بأحاديث الفتن، وكأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ الذي اشتهر بحفظه و كثرة رواياته لأحاديث النبي ـ ﷺ ـ .
وكان أهل الصفة يشاركون في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر مثل صفوان بن بيضاء، وخريم بن فاتك الأسدي وخبيب بن يساف وسالم بن عمير وحارثة بن النعمان الأنصاري ، ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة غسيل الملائكة، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري ، ومنهم من استشهد بخيبر مثل تقف بن عمرو ، ومنهم من استشهد بتبوك مثل عبد الله ذو البجادين ، ومنهم من استشهد باليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب ، فكانوا ـ رضي الله عنهم ـ فرسانا بالنهار رهبانا بالليل ..

ومن ثم فقد وقع البعض في خطأ فادح حين استدل على مشروعية مسلك بعض المنحرفين من المتصوفة وغيرهم، من حيث ترك العمل والإخلاد إلى الراحة والكسل، والمكوث في المساجد بحجة التوكل على الله، والاقتداء بحال أهل الصُّفَّة، فإن أبا هريرة ، وهو أكثر ارتباطاً بالصُّفَّة من غيره، خرج إلى الحياة يعلم الناس أحاديث النبي ـ ﷺ ـ، وأصبح أميراً في بعض أيامه على البحرين في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، بل إن أهل الصفة كانوا من المجاهدين في سبيل الله في ساحات القتال وقد استشهد بعضهم في معارك متعددة ـ رضي الله عن أهل الصفة ، وعن جميع أصحاب رسول الله ـ ﷺ ـ ..

وفي الحديث عن أهل الصفة فائدة تتعلق بأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ، فلا يوجد أحد من الصحابة تعرض لحملات جائرة مسعورة، بمثل ما تعرض له الصحابي الجليل أبو هريرة ـ .
فقد أحب ـ رضي الله عنه ـ أن يلازم رسول الله – ﷺ – ويعوض ما فاته من العلم والخير، ومن ثم حرص على سماع أكبر قدر ممكن من حديثه، ومعرفة أحواله، وتبركاً بخدمته – ﷺ – .
ولنستمع إلي أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ يوضح لنا ذلك، فيقول: ( إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله – ﷺ -، وتقولون: ما بال المهاجرون والأنصار لا يحدثون عن رسول الله – ﷺ -، بمثل حديث أبي هريرة ، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق الأسواق، وكنت ألزم رسول الله – ﷺ – على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة، أعي حين ينسون ) ( البخاري ) .
ولقد قال رسول الله – ﷺ – يوما : ( أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا ثم يجمعه إلى صدره فإنه لم ينس شيئا سمعه، فبسطت بردة عليَّ، حتى فرغ من حديثه ، ثم جمعتها إلى صدري ، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به ، ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (البقرة 160:159) ) ( مسلم ).

وفي ذلك رد على المبتدعة والضالين الذين طعنوا في أبي هريرة ـ وهم في الحقيقة يطعنون في السنة ـ وأثاروا الشبهات والتشكيك حول كثرة رواياته، فكل باحث متجرد يجزم بأن سبب هذه الكثرة إنما هي لطول ملازمته للرسول – ﷺ – في جميع أحواله، مع ما حباه الله من قوة الحفظ والذاكرة ، ببركة دعاء النبي – ﷺ – له، أضف إلى ذلك تفرغه التام من الشواغل، فقد كان من فقراء الصحابة ومن أهل الصفة، ليس له أهل ولا ولد ولا مال، وكان يلازم النبي – ﷺ – على ما يقيم به صلبه، ولا شك أن المتفرغ للشيء، المهتم به ، المتتبع له، يجتمع له من أخباره والعلم به في زمن يسير .
فرضي الله عن أبي هريرة ، وعن أهل الصفة، وعن جميع الصحابة أجمعين ..

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

يوسف يعقوب

كاتب ومترجم وخبير برمجة لاكثر من 20 سنة. مهتم بالغذاء والصحة وعلاج الامراض بالاعشاب والطرق الطبيعية.

أقرأ مقالاتي الأخرى